الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»
.تفسير الآية رقم (22): {سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22)}وقوله سبحانه: {سَيَقُولُونَ ثلاثة رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ...} الآية: الضميرُ في {سَيَقُولُونَ} يراد به أهْل التوراةِ من معاصري نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك أنهم اختلفوا في عدد أهْل الكهف.وقوله: {رَجْماً بالغيب}: معناه ظَنًّا وهو مستعارٌ من الرجْمِ، كأن الإِنسان يرمي الموضع المُشْكِلَ المجهول عنده بظنه المرةَ بعد المَرَّة يرجُمُه به، عَسَى أن يصيبه، والواو في قوله: {وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ}: طريق النحاة فيها أنها واو عَطْفٍ دخلَتْ في آخر الكلام؛ إخباراً عن عددهم، لتفصِّل أمرهم، وتدلَّ على أن هذا نهايةُ ما قيل، ولو سقطَتْ، لصح الكلام، وتقول فرقةٌ منهم ابنُ خالَوَيْهِ: هي واو الثمَانِيَةِ، وذكر ذلك الثعلبيُّ عن أبي بكر بن عَيِّاشٍ وأن قريشاً كانت تقول في عددها: ستة، سبعة وثمانية تسعةٌ، فتدخل الواو في الثمانية.* ع *: وهي في القرآن في قوله: {والناهون عَنِ المنكر} [التوبة: 112] وفي قوله: {وَفُتِحَتْ أبوابها} [الزمر: 73] وأما قوله: {وَأَبْكَاراً} [التحريم: 5] وقوله: {وثمانية أَيَّامٍ} [الحاقة: 7] فليستْ بواو الثمانيةِ بل هي لازمة إِذ لا يستغني الكلامُ عنها، وقد أمر اللَّه سبحانه نبيَّه في هذه الآية، أنْ يرد علْمَ عدَّتهم إِليه، ثم قال: {مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ} يعني: مِنْ أهل الكتاب، وكان ابن عبَّاس؛ يقولُ: أنا من ذلك القليل، وكانوا سبعةً، وثامنهم كلبهم.قال * ع *: ويدلُّ على هذا من الآية أنه سبحانه لَمَّا حكى قول من قال: ثلاثة، وخمسة، قَرَنَ بالقول؛ أنه رَجْم بالغيب، ثم حكى هذه المقالة، ولم يقدَحْ فيها بشيء، وأيضاً فَيَقْوى ذلك على القول بواوِ الثمانية؛ لأنها إِنما تكون حيث عدد الثمانية صحيحٌ.وقوله سبحانه: {فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَآءً ظاهرا} معناه على بعض الأقوال: أي: بظاهر ما أوحينا إِليك، وهو ردُّ علْمِ عدتهم إِلى اللَّه تعالى، وقيل: معنى الظاهر؛ أنْ يقول: ليس كما تقولون، ونحو هذا، ولا يحتجّ هو على أمر مقرَّر في ذلك، وقال التِّبْرِيزِيُّ: {ظَاهِراً} معناه: ذاهباً وأنشد: [الطويل]ولم يبح له في هذه الآية أن يماري، ولكن قوله: {إِلاَّ مِرَآءً} مجازٌ من حيث يماريه أهْلُ الكتاب، سمِّيت مراجعته لهم مِرَاءً، ثم قيد بأنه ظاهرٌ، ففارَقَ المراءَ الحقيقيَّ المذمومَ، والمِرَاء: مشتقٌّ من المِرْية، وهو الشكُّ، فكأنه المُشَاكَكَة. * ت *: وفي سماع ابن القاسمِ، قال: كان سليمان بن يَسَارٍ، إِذا ارتفع الصوْتُ في مجلسه، أو كانِ مَراءً، أخذ نعليه، ثم قام. قال ابنُ رُشْد: هذا مِنْ وَرَعه وفَضْله، والمِرَاء في العِلْم منهيٌّ عنه، فقد جاء أنه لا تُؤْمَنُ فتنته، ولا تفهم حِكْمته انتهى من البيان.والضمير في قوله: {وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِم} عائد على أهل الكَهْف، وفي قوله: {مِّنْهُمْ} عائدٌ على أهْل الكتاب.وقوله: {فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ}، أي: في عدَّتهم. .تفسير الآيات (23- 26): {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِع مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26)}وقوله سبحانه: {وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً * إِلاَّ أَن يَشَاءَ الله} قد تقدَّم أن هذه الآية عتاب من اللَّه تعالى لنبيِّه حيث لم يستثْنِ، والتقدير: إِلا أنْ تقولَ إِلاَّ أنْ يشاء اللَّه أو إِلاَّ أنْ تقولَ: إِن شاء اللَّه، والمعنى: إِلا أن تذكُرَ مشيئَةَ اللَّهِ.وقوله سبحانه: {واذكر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} قال ابن عباس والحسن معناه: إِلاشارة به إلى الاستثناء، أي: ولتستثْنِ بعد مدَّة إذا نسيت، أولاً لِتَخْرُجَ من جُمْلة من لم يعلِّق فعله بمشيئة اللَّه، وقال عكرمة: واذكر ربَّك إِذا غَضِبْتَ، وعبارة الواحِدِيِّ: {واذكر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ}، أي: إِذا نسيتَ الاستثناء بمشيئة اللَّه، فاذكره وقُلْه إِذا تذكَّرت. ا ه.وقوله سبحانه: {وَقُلْ عسى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي...} الآية: الجمهورُ أنَّ هذا دعاءٌ مأمورٌ به، والمعنى: عسى أنْ يرشدني ربِّي فيما أستقبل من أمري، والآية خطابٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، وهي بعدُ تعمُّ جميع أمته.وقال الواحديُّ: {وَقُلْ عسى أَن يَهْدِيَنِ}، أي: يعطيني ربي الآياتِ من الدلالاتِ على النبوَّة ما يكون أقرَبَ في الرشد، وأدلَّ من قصَّة أصحاب الكهف، ثم فعل اللَّه له ذلك حيثُ آتاه علْم غَيْوب المرسَلِينَ وخَبَرَهم. انتهى.وقوله سبحانه: {وَلَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِاْئَةٍ سِنِينَ...} الآية: قال قتادة وغيره: الآية حكايةٌ عن بني إسرائيلُ، أنهم قالوا ذلك؛ واحتجوا بقراءة ابن مسعود وفي مُصِحفه: {وقَالُوا لَبِثُوا في كَهْفِهِمْ}، ثم أمر اللَّه نبيَّه بأن يردَّ العلْم إِليه؛ ردَّا على مقالهم وتفنيداً لهم، وقال المحقِّقون: بل قوله تعالى: {وَلَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ...} الآية خبرٌ من اللَّه تعالى عن مُدَّة لبثهم، وقوله تعالى: {قُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ}، أي: فليزل اختلافكم أيها المخرِّصون، وظاهر قوله سبحانه: {وازدادوا تِسْعًا} أنها أعوام.وقوله سبحانه: {أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ}، أي: ما أَسْمَعَهُ سبحانه، وما أبْصَرَهُ، قال قتادة: لا أحَدَ أبْصَرُ مِنَ اللَّه، ولا أسْمَعَ.قال * ع * وهذه عبارةٌ عن الإِدراك، ويحتملُ أن يكون المعنى: أبْصِرْ به أي: بوحيه وإِرشاده، هُدَاكَ، وحُجَجَكَ، والحَقَّ من الأمور، وأسْمِعْ به العَالَم، فتكون اللفظتان أمرين لا على وجْه التعجُّب.وقوله سبحانه: {مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ}: الضمير في {لَهُمْ} يحتمل أنْ يرجع إِلى أهْلِ الكهْفِ، ويحتمل أنَّ يرجع إلى معاصري النبيِّ صلى الله عليه وسلم من الكُفَّار، ويكون في الآية تهديدٌ لهم..تفسير الآيات (27- 28): {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)}وقوله سبحانه: {اتل مَا أُوْحِيَ إِلَيْكَ}، أي: اتبع، وقيل: اسْرُدْ بتلاوتك ما أوحِيَ إليك من كتاب ربِك، لا نَقْضَ في قوله، ولا مُبَدِّلَ لكلماته، وليس لك سواه جَانِبٌ تميلُ إِليه، وتستند، والمُلَتَحدالجانب الذي يَمَالُ إِليه؛ ومنه اللَّحْد.* ت * قال النوويُّ: يستحبُّ لتالي القرآن إذا كان منفرداً أنْ يكون خَتْمُهُ في الصَّلاة، ويستحبُّ أن يكون ختمه أوَل الليلِ أو أول النهار، ورُوِّينا في مسند الإمام المُجْمَعِ على حْفظِهِ وجلالته وإِتقانه وبَرَاعته أبي محمَّدٍ الدَّارِمِيِّ رحمه اللَّه تعالى، عن سَعْدِ بنِ أبي وقَّاص رَضِيَ اللَّه عنه قَالَ: إِذَا وَافَقَ خَتْمُ القُرْآنِ أوَّلَ اللَّيّلِ، صَلَّتَ عَلَيْهِ المَلاَئِكَةُ حَتَّى يُصْبِحَ، وَإِنْ وَافَقَ خَتْمُهُ أَوَّلَ النَّهَارِ صَلَّتْ عَلَيْهِ المَلاَئِكَةُ حَتَّى يُمْسِي. قال الدارمي: هذا حديثٌ حسنٌ وعن طلحة بن مُطَرِّفٍ، قال: مَنْ خَتَمَ القُرْآنَ أَيَّةَ سَاعَةٍ كَانَتْ مِنَ النَّهَار، صَلَّتْ عَلَيْهِ المَلاَئكَةُ حَتَّى يُمْسِيَ، وأيَّةَ سَاعَةٍ كَانَتْ مِنَ اللَّيْلِ صَلَّتْ عَلَيْهِ المَلاِئَكَةُ حَتَّى يُصْبِحَ، وعن مجاهد نحوه انتهى.وقوله سبحانه: {واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم...} الآية: تقدَّم تفسيرها.وقوله سبحانه: {وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ}، أي: لا تتجاوزْ عنهم إِلى أبناء الدنيا، وقرأ الجمهور: {مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ} بنصب الباء على معنى جَعَلْنَاهُ غافلاً، والفُرُط: يحتملُ أن يكون بمعنى التفريط، ويحتمل أن يكون بمعنى الإفراط والإسراف، وقد فسَّره المتأوِّلون بالعبارتين..تفسير الآية رقم (29): {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)}وقوله سبحانه: {وَقُلِ الحق مِن رَّبِّكُمْ} المعنى: وقل لهم يا محمَّد هذا القرآن هو الحقُّ، * ت *: وقد ذم اللَّه تعالى الغافلين عَنْ ذكره والمُعْرِضين عن آياته في غيرما آية من كتابه، فيجبُ الحذر مما وقَع فيه أولئك، ولقد أحسن العارفُ في قوله: غَفْلَةُ ساعةٍ عَنْ ربِّكَ مُكَدِّرة لمرآة قلبكَ، فكيف بَغْفلتكَ جميعَ عُمُرك. وقد روي أبو هريرة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قالَ: «مَا جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلِساً لَمْ يَذْكُروا اللَّهَ فِيه ولَمْ يُصَلُّوا عَلَى نَبِيِّهمْ، إِلاَّ كَانَ عَلَيْهِمْ تِرَةٌ، فإنْ شَاءَ عَذَّبَهُمْ وإِنْ شَاءَ غَفَر لَهُمْ» رواه أبو داود والترمذيُّ والنسائي والحاكم وابنُ حِبَّان في صحيحهما وهذا لفظ الترمذيِّ، وقال: حديثٌ حَسَن، وقال الحاكمُ: صحيحٌ على شرط مسلم، والتِّرَةُ- بكسر التاء المُثَنَّاة من فوقُ وتخفيفِ الراء- النقْصُ، وقيل: التبعة، ولفظ ابن حِبَّان: «إِلاَّ كَانَ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً يَوْمَ القِيَامَةِ، وإِنْ دَخَلَوا الجَنَّةَ» انتهى من السلاح.وقوله: {فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن...} الآية: توعُّد وتهديد، أي: فليختر كلُّ امرئ لنفسه ما يجدُه غداً عند اللَّه عزَّ وجلَّ، وقال الداووديُّ، عن ابن عباس: {فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} يقول: من شاء اللَّه له الإِيمان، آمن، ومن شاء له الكفر، كفر، هو كقوله: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَن يَشَاءَ الله رَبُّ العالمين} [التكوير: 29] وقال غيره: هو كقوله: {اعملوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40] بمعنى الوعيد، والقولان معاً صحيحان. انتهى و{أَعْتَدْنَا} مأخوذٌ من العَتَاد، وهو الشيءُ المُعَدُّ الحاضر، والسُّرادق هو الجدار المحيطُ كالحُجْرة التي تدورُ وتحيطُ بالفسْطَاط، قد تكون من نَوْع الفُسْطَاط أديماً أو ثوباً أو نحوه، وقال الزَّجَّاج: السُّرَادِق: كل ما أحاط بشيء، واختلف في سُرَادِقِ النار، فقال ابن عباس: سرادقها حائطٌ من نارٍ، وقالت فرقة: سرادقها دُخَانٌ يحيطُ بالكُفَّار، وهو قوله تعالى: {انطلقوا إلى ظِلٍّ ذِي ثلاث شُعَبٍ} [المرسلات: 30] وقيل غير هذا، وروي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم من طريق أبي سعيد الخدريِّ؛ أنه قَالَ «سُرَادِقُ النَّارِ أربَعَةُ جُدُر كِثَفُ عَرْض كُلِّ جَدارٍ مَسِيرَةُ أرْبَعيِنَ سَنَةً» والمهل قال أبو سعيد عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: هو درديُّ الزيتِ، إِذا انتهى حَرُّه، وقال أبو سعيد وغيره: هو كلُّ ما أذيَب من ذهبٍ أو فضة، وقالت فرقةٌ: المُهْل هو الصديدُ والدمُ إِذا اختلطا، ومنه قول أبي بكر رضي اللَّه عنه في الكَفَن: إِنما هو للمهلة، يريدُ لما يسيلُ من المَيِّت في قبره، ويقوى هذا بقوله سبحانه: {ويسقى مِن مَّاءٍ صَدِيدٍ} [ابراهيم: 16] والمُرتفق: الشيء الذي يطلب رفقه..تفسير الآيات (30- 32): {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32)}وقوله سبحانه: {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} تقدَّم تفسير نظيره، واللَّه الموفِّق بفضله، و{أَسَاوِرَ} جمع أسْوَار، وهي ما كان من الحُلِيِّ في الذراع، وقيل: {أَسَاور} جَمْعُ أَسْوِرَة، وأَسْوِرَة جمع أسْوَارٍ، والسُّنْدس: رقيق الدِّيباج والإستبرق ما غلظ منه، قيل: إِستبرقٌ من البَرِيقِ، و{الأرائك} جمع أريكة، وهي السريرُ في الحجالِ، والضمير في قوله: {وَحَسُنَتْ} للجنَّات، وحكى النَّقَّاش عن أبي عمران الجَوْنيِّ، أنه قالَ: الإِستبرقُ: الحريرُ المنسوجُ بالذهب.وقوله سبحانه: {واضرب لَهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أعناب...} الآية الضمير في {لَهُم} عائدٌ على الطائفة المتجبِّرة التي أرادَتْ من النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنْ يطرد فقراء المؤمنين، فالمثل مضروبٌ للطائفتين، إذ الرجل الكافر صاحِبُ الجنتين هو بإزاء متجبِّري قريشٍ، أو بني تميمٍ؛ على الخلاف في ذلك، والرجُلُ المؤمنُ المُقِرُّ بالربوبية هو بإزاء فقراءِ المؤمنين، وخففنا بمعنى جعلنا ذلك لَهُمَا منْ كُلِّ جهة، وظاهر هذا المَثَل أنَّه بأمْرٍ وَقَعَ في الوجودِ، وعلى ذلك فَسَّره أكثر المتأوِّلين، فروي في ذلك أنهما كانا أخَويْنِ من بني إسرائيل، ورثا أربعَةَ آلاف دينارٍ، فصنع أحدهما بماله ما ذكر، واشترى عبيداً، وتزوَّج، وأثْرى، وأنفق الأخَرُ ماله في طاعة اللَّه عزَّ وجلَّ حتى افتقَرَ، والتقيا، فافتخر الغنيُّ، ووبَّخ المؤمن، فجرَتْ بينهما هذه المحاورَةُ، وروي أنهما كانا شريكَيْن حَدَّادَيْنِ كسبا مالاً كثيراً، وصَنَعَا نحو ما رُوِيَ في أمر الأَخَوَيْنِ، فكان من أمرهما ما قَصَّ اللَّه في كتابه.قال السهَيْلِيُّ: وذكر أن هذَيْن الرجلَيْن هما المذكوران في والصافات في قوله تعالى: {قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ يَِقُولُ أَءِنَّكَ لَمِنَ المصدقين} إِلى قوله {فاطلع فَرَءَاهُ فِي سَوَاءِ الجحيم} وإِلى قوله: {لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ العاملون} [الصافات: 51-61] انتهى..تفسير الآيات (33- 34): {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آَتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34)}وقوله سبحانه: {كِلْتَا الجنتين آتَتْ أُكُلَهَا} الأَكُلُ: ثمرها الذي يؤكل {وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئًا} أي لم تنقص عن العُرُفِ الأتَمِّ الذي يشبه فيها، ومنه قولُ الشاعر: [الطويل]وقرأ الجمهور: {ثُمُرٌ} و{بِثُمُرِهِ} [الكهف: 42]- بضم الثاء والميم- جمع ثِمَارٍ، وقرأ أبو عمرو- بسكون الميم- فيهما، واختلف المتأوِّلون في {الثُّمُر}- بضم الثاء والميم- فقال ابن عباس وغيره: الثُّمُر: جميع المال من الذهَبِ والفَّضة والحيوانِ وغير ذلك، وقال ابن زيد: هي الأصول، والمحاورة: مراجعةُ القولِ، وهو من حَارَ يَحُورُ.وقوله: {أَنَاْ أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً}: هذه المقالة بإزاء مقالة متجبِّري قريْشٍ، أو بني تميمٍ، على ما تقدَّم في سورة الأنعام. * ت * وقوله: {وَأَعَزُّ نَفَراً} يضَعِّف قول من قال: إِنهما أخوانِ فتأمَّله، واللَّه أعلم بما صحَّ من ذلك. .تفسير الآيات (35- 37): {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36) قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37)}وقوله سبحانه: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ...} الآية: أفْرَد الجنة من حيثُ الوجودُ كذلك إِذ لا يدخلهما معاً في وقت واحدٍ، وظلمه لنفسه هو كُفْره وعقائدُهُ الفاسدة في الشَّكِّ في البعث، وفي شكِّه في حدوث العالم، إن كانت إِشارته ب {هذه} إلى الهيئة من السموات والأرض وأنواعِ المخلوقات، وإِن كانت إِشارته إِلى جنته فقط، فإِنما الكلام تساخُفٌ واغترارٌ مفْرِط، وقلَّة تحصيلٍ، كأنه من شدَّة العُجْب بها والسرور، أفرط في وصفها بهذا القول، ثم قاس أيضاً الآخرة على الدنْيَا وظنَّ أنه لم يُمْلَ له في دنياه إِلا لكرامةٍ يستوجبها في نَفْسه، فقال: فإِن كان ثَمَّ رُجوعٌ، فستكون حالي كذاوكذا.وقوله: {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ} يعني المؤمن.وقوله: {خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ} إِشارةٌ إلى آدم عليه السلام.
|